هل الاكتشافات العلمية تستفز مشاعر المسلمين؟
تستفزُّ الاكتشافاتُ العلميّةُ مشاعرَ بعضِ المُسلمينَ لأسبابٍ أربعة:- لأنّهم لا يساهمونَ فيها بأيّ شيء. - لأنّهم يقيسونَها بمعيارِ النّصوصِ الدينيّةِ التي لا علاقةَ لها بالموضوع. - لأنّهم يعتبرونَ أيَّ اكتشافٍ علميّ تحدّياً لعقيدتِهم حيثُ يرونَ أنَّ وظيفةَ العلمِ هيَ إثباتُ ما يؤمنونَ به لا ما تصلُ إليهِ الأبحاثُ مِن نتائجَ جديدة. - لأنّهم لا يريدونَ الاعترافَ بخطئِهم التاريخيّ بنبذِ العلومِ العقليّة، الذي نبّهَ إليهِ ابنُ رُشد منذُ 800 عام.
الجواب:
المضمونُ العامُّ للإشكالِ تكرّرَ معنا كثيراً وتعرّضنا له في أكثرَ مِن جواب، ولذا سوفَ نقفُ عندَ الأسبابِ التي اعتبرَها السائلُ تستفزُّ مشاعرَ المُسلمين في ما يتعلّقُ بالاكتشافاتِ العلميّة.
السببُ الأوّل: (لأنّهم لا يساهمونَ فيها بأيّ شيء)
أوّلاً: العلومُ هيَ منجزٌ إنسانيٌّ عابرٌ للزّمانِ والمكانِ والقوميّاتِ والأديان، ولذا تحتفي البشريّةُ بأجمعِها عندَ كلِّ اكتشافٍ علميٍّ جديد يخدمُ الإنسان.
ثانياَ: تطوّرُ العلومِ وتقدّمُها يعتمدُ في الأساسِ على التجاربِ وتراكمِ الخبرات، فلكلِّ علمٍ تاريخٌ طويلٌ ساهمَت فيه مجموعةٌ منَ الحضاراتِ البشريّة، ومِن هُنا لا نفهمُ كيفَ تستفزُّ الاكتشافاتُ العلميّةُ مشاعرَ البعضِ وهوَ منجزٌ ساهمَ فيهِ الجميع؟
فمثلاً استفادَ نيوتن فائدةً عظيمةً مِن مؤلّفاتِ ابنِ الهيثم عالمِ الفيزياءِ المُسلم، خصوصاً في مجالِ الضوءِ والبصريّات.
وكانَ كتابُ "القانونِ في الطب" لابنِ سينا المرجعَ الطبّيَّ المُعتمدَ في جامعاتِ أوروبا لقرونٍ طويلة.
ونفّذَ الزهراويُّ عملياتٍ جراحيّةً مُعقّدةً قبلَ جرّاحي أوروبا بقرونٍ طويلة.
وأبدعَ العلماءُ المُسلمونَ علوماً جديدةً كعلمِ الصيدلةِ وعلمِ الجبر، وما قدّمَه الخوارزميُّ في هذا المجالِ ما زالَ حاضراً إلى اليوم.
ثالثاً: مؤرّخو الحضاراتِ والعلومِ لا يتجاهلونَ الحضارةَ الإسلاميّةَ وما قدّمَته مِن مُساهمةٍ كبيرةٍ في تطوّرِ شتّى العلومِ الإنسانيّةِ والتطبيقيّة.
ويبدو أنَّ مَن ليسَ لهُم علاقةٌ بالعلومِ ولا بتاريخِ الحضاراتِ هُم مَن يردّدونَ مثلَ هذهِ الكلمات، وإلّا كيفَ يمكنُ الحديثُ عن الاكتشافاتِ العلميّةِ ولا يتمُّ الحديثُ عن الحضارةِ الإسلاميّةِ بوصفِها أهمَّ حلقةٍ في تاريخِ العلوم؟
فهذا ارنست بانرث المُستشرقُ الأمانيّ يقول: "لا شكَّ أنَّ الحضارةَ الإسلاميّةَ ارتفعَت في القرونِ الوسطى إلى علومٍ لم ينتهِ إليها قومٌ آخرون. ولا يخفى أنَّ هذا الاعتلاءَ كانَ ثمرةَ الاجتهادِ في كلِّ نواحي الثقافةِ وتطبيقِ الطرقِ العلميّة".
وتقولُ الباحثةُ الألمانيّةُ (زيفريد هونكه): "إنَّ العربَ طوّروا بتجاربِهم وأبحاثِهم العلميّةِ وما أخذوهُ مِن مادّةٍ خامٍّ عن الإغريقِ وشكّلوهُ تشكيلاً جديداً فهُم في الواقعِ الذينَ ابتدعوا طريقةَ البحثِ العلميّ الحقِّ القائمِ على التجربة... فعندَهم فقط بدأ البحثُ الدائبُ الذي يمكنُ الاعتمادُ عليهِ يتدرّجُ منَ الجُزئيّاتِ إلى الكُلّيّات...
وعلى هذا الأساسِ ساروا في العلومِ الطبيعيّةِ شوطاً كبيراً أثّرَ فيما بعدَ بطريقٍ غيرِ مُباشر على مُفكّري الغربِ وعلمائِه أمثال روجر باكون وماكنوس وقيتليو ودافنشي.
إنَّ العربَ [المُسلمين] هُم مؤسّسو الطرقِ التجريبيّةِ في الكيمياءِ والطبيعةِ والحسابِ والجبرِ والمُثلّثاتِ وعلمِ الاجتماع وبالإضافةِ إلى عددٍ لا يُحصى منَ الاكتشافاتِ والاختراعاتِ في مُختلفِ فروعِ العلومِ والتي سُرقَ أكثرُها ونُسبَ لآخرين.
قدّمَ العربُ [المُسلمون] أثمنَ هديّةٍ وهيَ طريقةُ البحثِ العلميّ الصحيحِ التي مهّدَت أمامَ الغربِ طريقةً لمعرفةِ أسرارِ الطبيعةِ وتسلّطِه عليها اليوم".
وكثيرةٌ هيَ شهاداتُ علماءِ الغربِ عن مدى تأثيرِ الحضارةِ الإسلاميّةِ على بناءِ الحضارةِ الغربيّةِ الحديثة.
حتّى أنَّ المؤرّخَ الغربيَّ غوستاف لوبون يقول: لو لم يظهَر المُسلمونَ على مسرحِ التاريخِ لتأخّرَت نهضةُ أوروبا عدّةَ قرون.
ونحنُ بدورِنا نقولُ إذا لم يظهَر المُسلمونَ على مسرحِ التاريخِ لَما كانَت هناكَ نهضةٌ أوروبيّةٌ منَ الأساسِ وظلّت البشريّةُ تعيشُ في عصورِ الجهلِ والظلام.
رابعاً: نرشدُ صاحبَ الإشكالِ إلى ضرورةِ الاطّلاعِ على كتابِ (ألفِ اختراعٍ واختراع) للبروفيسور سليم الحسني لكي يقفَ على مُساهمةِ المُسلمينَ في الاكتشافاتِ العلميّة.
السببُ الثاني: (لأنّهم يقيسونَها بمعيارِ النّصوصِ الدينيّةِ التي لا علاقةَ لها بالموضوع)
أوّلاً: إن كانَ يقصدُ العلومَ التطبيقيّةَ فكلامُه مُجرّدُ ادعاءٍ لا تدعمُه أيُّ شواهدَ منَ الواقع، فلم نسمَع بمَن يقيسُ علومَ الفيزياءِ والكيمياءِ والهندسةِ والطبِّ على النصوصِ الدينيّة.
أمّا إذا كانَ يقصدُ العلومَ الإنسانيّةَ فمنَ الطبيعيّ أن تتمَّ مُقايستُها بالنصوصِ الدينيّةِ إذا كانَت موضوعاتُها مُشتركةً معَ موضوعاتِ النصوص، ولا أظنُّ هناكَ عاقلاً يجادلُ بوجودِ موضوعاتٍ مُشتركةٍ بينَ النصوصِ وبينَ العلومِ الإنسانيّة.
ثانياً: لو سلّمنا بحدوثِ ذلكَ جدلاً فما هوَ الأمرُ الذي يستفزُّ مشاعرَ المُسلمين في هذهِ القضيّة؟
السّببُ الثالث: (لأنّهم يعتبرونَ أيَّ اكتشافٍ علميّ تحدّياً لعقيدتِهم حيثُ يرونَ أنَّ وظيفةَ العلمِ هيَ إثباتُ ما يؤمنونَ به لا ما تصلُ إليهِ الأبحاثُ مِن نتائجَ جديدة)
أوّلاً: مَن هُم الذينَ يعتبرونَ أيَّ اكتشافٍ علميّ تحدّياً لعقيدتِهم؟ فمَن يدّعي مثلَ هذا الادّعاءِ لابدَّ أن يذكرَ ولو اسمَ عالمٍ واحدٍ يتبنّى كونَ الدينِ والقرآنِ مرجعاً لعلومِ الطبيعة، فإذا لم يكُن في نظرِهم مرجعاً لهذهِ العلومِ فكيفَ نفهمُ أن تكونَ الاكتشافاتُ العلميّةُ تحدّياً لعقائدِهم؟
ثانياً: ما يؤمنُ به المسلمُ ويعتقدُ به لا يمكنُ أن يتعارضَ معَ الاكتشافاتِ العلميّة؛ لأنَّ الإسلامَ في الأساسِ قائمٌ على العقلِ والعلم، فحتّى لو افترَضنا وجودَ مُخالفةٍ بينَ فهمِنا للنصِّ وبينَ ما ثبتَ بضرورةِ العقلِ فيجبُ حينَها تغييرُ ذلكَ الفهمِ بما ينسجمُ معَ حُكمِ العقلِ الضروري.
ثالثاً: وظيفةُ الدينِ والقرآنِ هيَ هدايةُ الإنسانيّةِ إلى الحياةِ الطيّبةِ في الدّنيا والفوزِ العظيمِ في الآخرة، وليسَ مِن مُختصّاتِه تعليمُ الإنسانِ الفيزياءَ والكيمياءَ وغيرَها منَ العلوم، وقد اكتفى القرآنُ في ذلكَ بتذكيرِ الإنسانِ بأنّهُ سميعٌ وبصيرٌ وعاقل، أي أنّه قادرٌ بنفسِه على تأسيسِ تلكَ العلوم، ولم يتدخّل القرآنُ في ذلكَ إلّا مِن خلالِ وضعِ الضوابطِ الأخلاقيّةِ والقيميّةِ التي تحكمُ مسارَها.
السّببُ الرّابع: (لأنّهم لا يريدونَ الاعترافَ بخطئِهم التاريخيّ بنبذِ العلومِ العقليّة، الذي نبّهَ إليهِ ابنُ رُشد منذُ 800 عام)
أوّلاً: التيّاراتُ التي نبذَت العقلَ هيَ التيّاراتُ الحشويّةُ والظاهريّةُ وهيَ لا تعبّرُ عن السياقِ العامِّ للمُسلمين.
ثانياً: ابنُ رُشد واحدٌ مِن عُلماءِ المُسلمين، وهوَ منَ الذينَ ساهموا في حدوثِ النهضةِ الغربيّة، فإن كانَ صاحبُ الإشكالِ يعترفُ بذلكَ فكيفَ جازَ له القولُ أنَّ الاكتشافاتِ العلميّةَ تستفزُّ مشاعرَ المُسلمين، ألم يكُن ابنُ رُشد مِنهم؟
اترك تعليق