هل صحيح أن قبر الإمام علي في النجف هو قبر المغيرة ؟

السؤال: ذكر بعض أهل السنَّة أنَّ الضريح الموجود في النجف هو قبر (المغيرة بن شُعبة) وليس لعليِّ بن أبي طالب، حيث أوصى عليٌّ بأنْ يُدفن في مكانٍ لا يعلمه أحد.‌‎ قال الذهبيّ: (وقال مُطيَّن: لو علمتْ الرافضةُ قبرَ مَنْ هذا الذي يزار بظاهر الكوفة لرجمتْه! هذا قبر المغيرة بن شعبة) [تاريخ الإسلام ج3 ص651].

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

لا شكَّ أنَّ ولادة منشأ هذا الإشكال والاشتباه من رحم سرِّية الموقف في دفن مولانا أمير المؤمنين(ع)؛ خوفاً من نبش قبره الشريف من قِبَل بني أميَّة وسائر أعدائه كالخوارج وغيرهم، وهو ما نصَّ عليه السيد عبد الكريم بن طاووس(قدِّس سرُّه).

قال (رحمه الله) ما نصُّه: (فاقتضى ذلك أنْ أوصى بدفنه (ع) سرَّاً؛ خوفاً من بني أميَّة وأعوانهم، والخوارج، وأمثالهم، فربَّما إذا نبشوه - مع علمهم بمكانه - حمل ذلك بني هاشم على المحاربة، والمشاققة التي أغضى عنها (ع) في حال حياته، فكيف لا يوصي بترك ما فيه مادَّة النزاع بعد وفاته؟ وقد كان في طيِّ قبره فوائدُ لا تحصى) [يُنظر: فرحة الغري ص104].

إذا اتَّضح هذا البيان بهذا اللسان - عزيزي السائل- فلنا على بطلان هذا القول ـ أعني: دفن المغيرة بن شعبة في أرض الغريِّ ـ جملة أمور:

الأمر الأوَّل: الظاهر أنَّ الأصل في نسبة القبر إلى المغيرة ما تفرَّد به أبو جعفر الحضرميُّ الكوفيُّ المشهور بـ(‌مُطَيَّن)، ولم نجد من تابعه على هذا الكلام من أقرانه، فضلاً عمَّن تقدَّمه، كما أنَّ من جاء بعده ممَّن ذكر هذا القول فإنَّما تابع مُطيَّناً هذا، فهو منشأ النسبة وأساسها، وناسج الفرية ورأسها ولم يذكر في كلامه سوى دعوى ادَّعاها من غير مستندٍ يُعوَّل عليه، ولا برهانٍ يستند إليه، ولا دلَّل على مدَّعاه برواية أو خبر [يُنظر: تاريخ بغداد ج1ص466]، هذا وقد عاش خمساً وتسعين سنة، وتوفِّي سنة (297هـ)، وقد استشهد أمير المؤمنين (ع) سنة (40هـ)، فما بين شهادته (ع) ووفاة مُطيَّنٍ هذا أكثر من 250 سنة [يُنظر: سير أعلام النبلاء ج11 ص28]. وأمَّا كلام أبي نعيم، فهو نَقَله عن مُطيَّنٍ كما يظهر من المصادر، فإنَّ أبا نعيم هو الذي نقل كلام مُطيَّن.

الأمر الثاني: لقد خطَّأ جملةٌ من الأعلام هذا القول، فقد ذكر سبط ابن الجوزيِّ ما نصُّه: (وقد حكى أبو نعيم الأصبهانيُّ أنَّ الذي على النجف إنَّما هو قبر المغيرة بن شعبة، قال: ولو علم به زوَّاره لرجموه. قلتُ: وهذا من أغلاط أبي نعيم، فإنَّ المغيرة بن شعبة لم يُعرف له قبر، وقيل: إنَّه مات بالشام) [يُنظر: تذكرة الخواص ج1ص640].‌

وقال ابن أبي الحديد المعتزليُّ: (وسألتُ بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة عمَّا ذكره الخطيب أبو بكرٍ في تاريخه، أنَّ قوماً يقولون: إنَّ هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغريّ هو قبر المغيرة بن شعبة! فقال: غلطوا في ذلك، قبر المغيرة، وقبر زياد بالثويَّة من أرض الكوفة، ونحن نعرفهما وننقل ذلك عن آبائنا وأجدادنا) [شرح النهج ج6 ص123].

الأمر الثالث: لقد نصَّ جملةٌ من الأعلام على أنَّ المغيرة بن شعبة قد دفن في (الثويَّة) وليس في (الغريِّ)، ومن الواضح أنَّ (الثويَّة) مكانٌ غير مكان (الغريِّ)، منهم:

1ـ ما قاله ابن الأثير في نهايته، ونصُّه: (الثويَّة: هي بضم الثاء وفتح الواو وتشديد الياء، ويقال بفتح الثاء وكسر الواو: موضع بالكوفة، به قبر أبي موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة) [النهاية ج1 ص231].

2ـ وما قاله أبو عبد الله ياقوت الحمويُّ، ونصُّه: (‌‌الثويَّة: بالفتح ثمَّ الكسر، وياء مشددة، ويقال: الثويَّة بلفظ التصغير: موضعٌ قريبٌ من الكوفة، وقيل: بالكوفة، وقيل: خريبةٌ إلى جانب الحيرة على ساعةٍ منها، ذكر العلماء أنها كانت سجناً للنعمان بن المنذر، كان يحبس بها من أراد قتله، فكان يُقال لمن حبس بها ثوى أيْ: أقام، فسمِّيت الثويَّة بذلك.

وقال ابن حبَّان: ‌دفن ‌المغيرة ‌بن ‌شعبة بالكوفة بموضعٍ يقال له الثويَّة، وهناك دفن أبو موسى الأشعريُّ في سنة خمسين) [مُعجم البلدان ج2 ص87].

3ـ وما قاله ابن أبي الحديد، ونصُّه: (وسألتُ قطب الدين نقيب الطالبيين أبا عبد الله الحسين بن الأقساسيّ عن ذلك، فقال: صدق من أخبرك، نحن وأهلها كافَّة نعرف مقابر ثقيف إلى الثويَّة، وهي إلى اليوم معروفة، وقبر المغيرة فيها، إلَّا أنَّها لا تعرف، وقد ابتلعها السبخ وزبد الأرض وفورانها، فطمست واختلط بعضها ببعض. ثمَّ قال: إنْ شئت أنْ تتحقق أنَّ قبر المغيرة في مقابر ثقيف فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين، والمح ما قاله في ترجمة المغيرة، وأنَّه مدفونٌ في مقابر ثقيف، ويكفيك قول أبي الفرج، فإنَّه الناقد البصير، والطبيب الخبير، فتصفَّحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور، فوجدتُ الأمر كما قاله النقيب) [شرح النهج ج6ص124].

الأمر الرابع: ما دلَّ على أنَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قد دُفن في أرض الغريّ حيث قبره الشريف الآن، فمن ذلك:

1ـ ما رواه عبد الله ابن أبي الدنيا بسنده عن هشام بن محمَّد قال: قال لي أبو بكر بن عيَّاش: (سألت أبا حصين، وعاصم بن بهدلة، والأعمش وغيرهم، فقلتُ: أخبركم أحدٌ أنَّه صلَّى على عليٍّ أو شهد دفنه؟ قالوا: لا. فسألتُ أباك محمَّد بن السائب فقال: أُخرِجَ به ليلاً، خرج به الحسن والحسين، وابن الحنفيَّة، وعبد الله بن جعفر، وعدَّةٌ من أهل بيتهم، فدُفن في ظهر الكوفة، فقال: قلت لأبيك: لم فعل به ذلك؟ قال: خافوا أنْ تنبشه الخوارج أو غيرهم) [مقتل أمير المؤمنين ص72].

2ـ وما رواه المؤرِّخ أبو الفرج الأصبهانيُّ الأمويُّ بسنده عن الحسن بن علي الخلَّال، عن جدِّه، قال:(قلت للحسن بن علي: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ قال: خرجنا به ليلاً من منزله حتَّى مررنا به على مسجد الأشعث، حتَّى خرجنا به إلى الظهر بجنب الغريّ) [مقاتل الطالبيين ص54].

3ـ وما رواه المؤرِّخ أبو محمَّد أحمد بن أعثم الكوفيُّ، ونصُّه: (قال الحسن: فلم أصبر أنْ فتحتُ الباب ودخلتُ، فإذا أبي فارق الدنيا، فأحضرنا أكفانه، وقد كان عنده حنوطٌ له من بقية حنوط النبيِّ (ص)، فغسَّله الحسن والحسين، ومحمَّد بن الحنفية يصبُّ على أيديهما الماء، ثمَّ كُفِّن، وحمل على أعواد المنايا، ودفن في جوف الليل الغابر، بموضع يُقال له الغريّ) [الفتوح ج4 ص281].

4ـ وما ذكره المؤرِّخ أبو عبد الله ياقوت الحمويُّ، ونصُّه: (والغريُّ: الحسَنُ من كلِّ شيء، يقال: رجل غريُّ الوجه إذا كان حسناً مليحاً ... إلى قوله: والغريَّان: طربالان، وهما بناءان كالصَّومعتين بظاهر الكوفة قرب قبر علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)) [يُنظر: معجم البلدان ج4 ص196].

5ـ وما قاله عبد القادر البغدادي في خزانة الأدب، ونصُّه: (والغريَّان: موضع بالكوفة نحو فرسخين عنها، وهو مثنى الغريّ، بفتح الغين المعجمة وكسر الراء المهملة وتشديد الياء. قال البكريُّ في معجم ما استعجم: قال المفجع: الغريُّ: موضع بالكوفة، ويقال: إن قبر علي بن أبي طالب (رض) بالغريّ، ويقال: الغريَّان) [خزانة الأدب ولبُّ لباب لسان العرب ج11 ص269].

الأمر الخامس: ما تعارف عند أهل البيت (ع) وشيعتهم من أنَّ الغريَّ هو قبرُ ومرقد أمير المؤمنين (ع)، إذ أنَّ أعرف الناس بقبر الميت هم أهله وأرحامه، وقد تواترت الأخبار في زيارة أئمَّة الهدى (ع) وشيعتهم للضريح المعظَّم والحثِّ على زيارته.

قال ابن أبي الحديد: (قال أبو الفرج: حدَّثني أحمد بن سعيد قال: حدَّثنا يحيى بن الحسن العلويُّ قال: قال: حدَّثنا يعقوب بن زيد، عن ابن أبي عُمير، عن الحسن بن علي الخلَّال، عن جدِّه، قال: «قلت للحسين بن علي (ع): أين دفنتم أمير المؤمنين (ع)؟ قال: "خرجنا به ليلاً من منزله حتَّى مررنا به على منزل الأشعث بن قيس، ثمَّ خرجنا به إلى الظهر بجنب الغريّ". قلتُ: وهذه الرواية هي الحقُّ وعليها العمل، وقد قلنا فيما تقدَّم أنَّ أبناء الناس أعرف بقبور آبائهم من غير هم من الأجانب، وهذا القبر الذي بالغريّ هو الذي كان بنو عليٍّ يزورونه قديماً وحديثاً، ويقولون: هذا قبر أبينا لا يشكُّ أحدٌ في ذلك من الشيعة، ولا من غيرهم، أعني بني عليٍّ من ظهر الحسن والحسين وغيرهما من سلالته المتقدِّمين منهم والمتأخِّرين، ما زاروا ولا وقفوا إلَّا على هذا القبر بعينه) [شرح نهج البلاغة ج6ص122].

أقول: ويكفي لمعرفة هذا الأمر تفصيلاً مراجعة ما خطَّة العلَّامة الجليل السيد عبد الكريم بن طاووس العلويُّ (طاب ثراه)، في كتابه القيِّم (فرحة الغريِّ في تعيين قبر أمير المؤمنين عليّ)، فإنه أحسن وأجاد.

والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم بطلان زعمهم أنَّ (المغيرة بن شعبة) هو من دُفن في الغريِّ وليس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، بل تبيَّن أنَّ الحق هو ما تعتقد به الشيعة -أعزَّ الله كلمتهم- من أنَّ هذا القبر الشامخ والضريح المبارك، مصدر الكرامات ومنبع المعجزات هو قبر وليِّ الله الأعظم أمير المؤمنين وسيِّد الوصيين علي بن أبي طالب (عليه صلاة المصلِّين).

والحمد لله ربِّ العالمين.