لَّقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحًا قَرِيبًا) مَن هُم المؤمنونَ الذينَ رضيَ اللهُ عنهم؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

تتعلّقُ هذهِ الآيةُ المباركةُ بحادثةٍ وقعَت في السنةِ السادسةِ منَ الهجرة، وتُسمّى ببيعةِ الشجرةِ أو بيعةِ الرّضوان، ونشيرُ هُنا باختصارٍ إلى أسبابِ تلكَ التسميةِ، لكونِها منَ الأحداثِ المعروفةِ وقد فصّلتها كتبُ السيرةِ النبويّةِ الشريفة، حيثُ تبدأ الحادثةُ بعدَ عزمِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) التوجّهَ لمكّةَ لأداءِ العُمرة، وكانَ معَه ما بينَ ألفٍ وأربعمائة إلى ألفٍ وخمسمائةِ صحابيّ، إلّا أنَّ قريش منعَتهم مِن ذلك، فأرادَ النبيُّ أن يبعثَ أحدَ الصحابةِ للتفاوضِ مع قريش على دخولِ مكّةَ للعُمرة، فدعا عمرَ بنَ الخطّاب، ولكنَّ عُمرَ قال: (إنّي أخافُ قريشًا على نفسي، وليسَ بمكّةَ مِن بني عدي أحدٌ يمنعني، وقد عرفَت قريشُ عداوتي إيّاها وغلظَتي عليها، ولكنّي أدلّكَ على رجلٍ أعزُّ بها منّي عثمانُ بنُ عفّان) (سيرةُ بنِ هشام، ج 3، ص 780)، فأرسلَ النبيُّ عثمانَ بنَ عفّان، فلقيَه أبانُ بنُ سعيدٍ بنِ العاص وأجارَه في بيتِه، ثمَّ ذهبَ إلى أبي سفيان بنِ حرب وأشرافِ مكّة يخبرُهم أنَّ المُسلمينَ لم يأتوا لحربٍ وإنّما جاءوا زائرينَ للبيتِ الحرام، فاحتبسَته قريشُ عندَ ذلكَ ثلاثةَ أيّام، فبلغَ المُسلمينَ أنَّ عثمانَ قد قُتل، فقالَ النبيُّ لصحابتِه: (لا نبرحُ حتّى نناجزَ القوم)، ودعاهُم إلى مُبايعتِه لقتالِ قريش حتّى الموت، وقد وقعَت تلكَ البيعةُ تحتَ شجرةٍ فسُمّيَت ببيعةِ الشجرة، كما سُمّيَت ببيعةِ الرضوانِ لقولِه تعالى: (لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم)  

اعتقدَ البعضُ بكونِ الآيةِ دالّةً على أنَّ اللهَ راضٍ عن جميعِ مَن بايعَ تحتَ الشجرة، ولا خلافَ في أنَّ الرّضا قد وقعَ بالفعلِ على المُبايعين، إلّا أنَّ الخلافَ حولَ طبيعةِ هذا الرّضا هل هوَ مُطلقٌ أم مُقيّد؟ وبمعنىً آخر؛ هل في هذا الرّضا حصانةٌ مُطلقةٌ للمُبايعينَ وعصمتُهم عمّا يصدرُ منهم من معاصي مُستقبلاً؟ أم أنَّ هذا الرّضا مُعلّقٌ على قضيّةٍ مُعيّنة وفعلٍ مُحدّد وهو بيعتُهم لرسولِ الله؟   

منَ الواضحِ أنَّ الآيةَ علّقَت الرّضا على بيعتِهم تحتَ الشجرةِ بقولِه: (لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إِذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ) أي أنَّ الآيةَ ليسَت في واردِ الحديثِ عن أفعالِهم الماضيةِ أو أفعالِهم المُستقبليّة، وإنّما في واردِ بيانِ رضا اللهِ عن بيعةِ الصّحابةِ لرسولِ الله في ذلكَ اليوم، وسببُ الرّضا هو علمُ اللهِ بصدقِ نواياهُم في تلكَ البيعةِ فقالَ: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم) أي علمَ نيّتَهم في تلكَ البيعة، ولا يعني أنَّ قلوبَهم أصبحَت معصومةً مِن أن تردَ عليها نيّاتٌ ليسَت في رضا اللهِ تعالى،  قالَ الطبريُّ في تفسيرِه: وقوله: (فعلمَ ما في قلوبهم) يقولُ تعالى ذكرُه: فعلمَ ربُّك يا محمّدُ ما في قلوبِ المؤمنينَ مِن أصحابِك إذ يبايعونَك تحتَ الشجرة، مِن صدقِ النيّة، والوفاءِ بما يبايعونَك عليه) (جامعُ البيانِ 26/ 114)، ومِن هُنا فإنَّ حصولَ رضا اللهِ عن بيعتِهم لا يُنافي غضبَه عليهم إذا عصوه في فعلٍ آخر، وما يؤكّدُ ذلكَ أنَّ الآياتِ وضعَت شرطاً لحصولِ هذا الرّضا وهو ضرورةُ الوفاءِ بالبيعة وعدمِ التراجعِ عنها، وهوَ قولهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوقَ أَيدِيهِم ۚ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفسِهِ ۖ وَمَن أَوفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيهُ اللَّهَ فَسَيُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا) ممّا يدلُّ على أنَّ رضا اللهِ ليسَ فيه ضمانةٌ مُستقبليّةٌ لجميعِ أفعالِهم؛ ولذا قالَ: (فمَن نكثَ فإنّما ينكثُ على نفسِه)، بل حتّى الاستمرار على البيعةِ ليسَ مضموناً ناهيكَ عَن أفعالِهم المُستقبليّة، فاحتماليّةُ نكثِ البيعةِ وعدمِ الوفاءِ بها أمرٌ متوقّعٌ وليسَ مُستحيلاً، وعليهِ فإنَّ رضا اللهِ مُعلّقٌ بالوفاءِ بعهدِهم للهِ تعالى (وَمَن أَوفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيهُ اللَّهَ فَسَيُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا)   

والظاهرُ أنَّ مُبايعةَ الرسولِ على الموتِ ليسَت خاصّةً بهذه الحادثةِ وإنّما تشملُ جميعَ المواقفِ والحروبِ التي خاضَها رسولُ الله (صلّى اللهُ عليه وآله) وبالتّالي رضا اللهِ لا يكونُ شاملاً لمَن لم يثبُت معَ رسولِ اللهِ في حروبِه، وهذا ما حدثَ بالفعل مِن بعضِ الذينَ كانوا حاضرينَ بيعةَ الرضوان، فأوّلُ الأحداثِ التي وقعَت بعدَ هذهِ البيعةِ هوَ فتحُ خيبر، وفيها أنهزمَ بعضُهم وولّى فارّاً منَ المواجهة، فقد أمرَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) عُمرَ بنَ الخطّابِ بهذهِ المُهمّة وهيَ المرّةُ الأولى التي يُعيّنُه فيها قائداً لجماعةٍ، إلّا أنّهُ رجعَ يجبّنُ أصحابَه ويجبّنونَه، حيثُ روى الحاكمُ في مُستدركِه: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ الرَّايَةَ يَومَ خَيبَرَ إِلَى عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، فَانطَلَقَ، فَرَجَعَ يُجَبِّنُ أَصحَابَهُ وَيُجَبِّنُونُهُ) (المستدركُ، ج3، ص581، رقمُ الحديث 4398) وعلّقَ الحاكمُ على الحديثِ بقوله: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرطِ مُسلِمٍ، وَلَم يُخَرِّجَاهُ.

وبعد أن تكرّرَ الفرارُ مِن بعضِ الصحابةِ قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله): (سأعطي الرايةَ غداً إلى رجلٍ يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسوله كرّارٌ غيرُ فرّار) وكانَ ذلكَ هوَ الإمامُ عليّ (عليهِ السّلام) الذي كانَ فتحُ خيبرَ على يديه.  

وفي الخُلاصةِ لا يمكنُ الاستدلالُ بهذه الآيةِ على عصمةِ المُبايعينَ تحتَ الشجرةِ عن فعلِ ما يغضبُ اللهَ تعالى، فقد أثبتَ التاريخُ صدورَ الكثيرِ منَ الأفعالِ التي لا تُرضي اللهَ تعالى ممَّن كانَ مُشاركاً في تلكَ البيعة، ومِن بينِها الفرارُ في الزحفِ كما حدثَ مِن بعضِهم في غزوةِ أحد أو غزوةِ حُنين، كما أن مِن بينِ المُبايعينَ قاتلُ عمّارٍ بنِ ياسر في صفّينَ وهو أبو الغاديةِ، وقد نقلَ ابنُ حجرٍ العسقلاني في كتابِ الإصابة ج 7، ص 258، 260، الكثيرَ منَ الأقوالِ التي تؤكّدُ قتله لعمّارٍ بنِ ياسر، مِنها: وقالَ الدّوري، عن ابنِ معين: أبو الغاديةِ الجهني قاتلُ عمّار، لهُ صحبةٌ وفرقٌ بينَه وبينَ أبي الغاديةِ المزني. وقالَ الحاكمُ أبو أحمد كما قالَ البُخاري: وزادَ وهوَ قاتلُ عمّارٍ بنِ ياسر. وقالَ مسلمٌ في الكنى: أبو الغاديةِ يسارٌ بنُ سبع قاتلُ عمّار لهُ صحبة)  

وقد وردَ عن النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) في حديثٍ يُصحّحُه الحاكمُ والذهبيُّ والهيثميّ والألبانيّ وغيرُهم قوله: (إنّ قاتلَ عمّارٍ وسالبَه في النار) فكيفَ بعدَ ذلكَ يمكنُنا القولُ أنَّ كلَّ مَن حضرَ بيعةَ الشجرةِ قد رضيَ اللهُ عنه بشكلٍ مُطلق؟!